فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كان الأنيباء معصومين من كل نقيصة، ومبرئين من كل دنية، لا يتوجه عليهم حق لا يؤدونه؛ قال: {بغير حق} أي كبير ولا صغير أصلًا.
وهذا الحرف- لكونه في سياق طعنهم في القرآن الذي هو أعظم الآيات- وقع التعبير فيه أبلغ مما في آل عمران الذي هو أبلغ مما سبق عليه، لأن هذا مع جمع الكثرة وتنكير الحق عبر فيه بالمصدر المفهم لأن الاجتراء على القتل صار لهم خلقًا وصفة راسخة، بخلاف ما مضى، فإنه بالمضارع الذي ربما دل على العروض؛ ثم ذكر أعظم من ذلك كله وهو إسنادهم عظائمهم إلى الله تعالى فقال: {وقولهم قلوبنا غلف} أي لا ذنب لنا لأن قلوبنا خلقت من أصل الفهم بعيدةً عن فهم مثل ما يقول الأنبياء، لكونها في أغشية، فهي شديدة الصلابة، وذلك سبب قتلهم ورد قولهم، وهذا بعد أن كانوا يقرون بهذا النبي الكريم، ويشهدون له بالرسالة وبأنه خاتم الأنبياء، ويصفون بأشهر صفاته، ويترقبون إتبانه، لا جرم رد الله عليهم بقوله عطفًا على ما تقديره: وقد كذبوا لأنهم ولدوا على الفطرة كسائر الولدان، فلم تكن قلوبهم في الأصل غلفًا: {بل طبع الله} أي الذي له معاقد العز ومجامع العظمة {عليها} طبعًا عارضًا {بكفرهم} بل إنه خلقها أولًا على الفطرة متمكنة من اختيار الخير والشر، فلما أعرضوا بما هيأ قلوبهم له من قبول النقض- عن الخير، واختاروا الشر باتباع شهواتهم الناشئة من نفوسهم، وترك ما تدعو إليه عقولهم، طبع سبحانه وتعالى عليها.
فجعلها قاسية محجوبة عن رحمته، ولذا سبب عنه قوله: {فلا يؤمنون} أي يجددون الإيمان في وقت من الأوقات الآتية، ويجوز أن يتعلق بما تقديره تتمة لكلامهم: طبع الله عليها فهي لا تعي، وتكون بل استدراكًا للطبع بالكفر وحده، لأنه ربما انضم إليه، وأن يكون أضرب عن قولهم: إنها في غلف، لكون ما في الغلاف قد يكون مهيئًا لإخراجه من الغلاف إلى الطبع الذي من شأنه الدوام {إلا قليلًا} من الإيمان بأن يؤمنوا وقتًا يسيرًا كوجه النهار ويكفروا في غيره، ويؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض، أو إلا إناسًا قليلًا منهم- كما كان أسلافهم يؤمنون بما يأتي به موسى عليه الصلاة والسلام من الآيات، ثم لم يكن بأسرع من كفرهم وتعنتهم بطلب آية أخرى كما هو مذكور في توراتهم التي بين أظهرهم، ونقلت كثيرًا منه في هذا الكتاب، فقامت الحجة عليهم بأنهم يفرقون بين قدرتهم على الإيمان وقدرتهم على الطيران. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

في متعلق الباء في قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم} قولان الأول: أنه محذوف تقديره فيما نقضهم ميثاقهم وكذا، لعنادهم وسخطنا عليهم، والحذف أفخم لأن عند الحذف يذهب الوهم كل مذهب، ودليل المحذوف أن هذه الأشياء المذكورة من صفات الذم فيدل على اللعن.
الثاني: أن متعلق الباء هو قوله: {فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] وهذا قول الزجاج ورغم أن قوله: {فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ} بدل من قوله: {فِمَا نَقْضِهِم}.
واعلم أن القول الأول أولى، ويدل عليه وجهان: أحدهما: أن من قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم} إلى قوله: {فَبِظُلْمٍ} الآيتين بعيد جدًا، فجعل أحدهما بدلًا عن الآخر بعيد.
الثاني: أن تلك الجنايات المذكورة عظيمة جدًا لأن كفرهم بالله وقتلهم الأنبياء وإنكارهم للتكليف بقولهم: قلوبنا غلف أعظم الذنوب، وذكر الذنوب العظيمة إنما يليق أن يفرع عليه العقوبة العظيمة، وتحريم بعض المأكولات عقوبة خفيفة فلا يحسن تعليقه بتلك الجنايات العظيمة. اهـ.
قال الفخر:
إنه تعالى أدخل حرف الباء على أمور: أولها: نقض الميثاق.
وثانيها: كفرهم بآيات الله، والمراد منه كفرهم بالمعجزات، وقد بينا فيما تقدم أن من أنكر معجزة رسول واحد فقد أنكر جميع معجزات الرسل، فلهذا السبب حكم الله عليهم بالكفر بآيات الله.
وثالثها: قتلهم الأنبياء بغير حق، وذكرنا تفسيره في سورة البقرة.
ورابعها: قولهم: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} وذكر القفال فيه وجهين: أحدهما: أن غلفا جمع غلاف والأصل غلف بتحريك اللام فخفف بالتسكين، كما قيل كتب ورسل بتسكين التاء والسين، والمعنى على هذا أنهم قالوا قلوبنا غلف، أي أوعية للعلم فلا حاجة بنا إلى علم سوى ما عندنا، فكذبوا الأنبياء بهذا القول.
والثاني: أن غلفا جمع أغلف وهو المتغطى بالغلاف أي بالغطاء، والمعنى على هذا أنهم قالوا قلوبنا في أغطية فهي لا تفقه ما تقولون، نظيره ما حكى الله في قوله: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5].
ثم قال تعالى: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ}.
فإن حملنا الآية المتقدمة على التأويل الأول كان المراد من هذه الآية أنه تعالى كذبهم في ادعائهم أن قلوبهم أوعية للعلم وبيّن أنه تعالى طبع عليها وختم عليها فلا يصل أثر الدعوة والبيان إليها، وهذا يليق بمذهبنا، وإن حملنا الآية المتقدمة على التأويل الثاني كان المراد من هذه الآية أنه تعالى كذبهم في ادعائهم أن قلوبهم في الأكنة والأغطية، وهذا يليق بمذهب المعتزلة، إلاّ أن الوجه الأول أولى، وهو المطابق لقوله: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ}.
ثم قال: {فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلًا} أي لا يؤمنون إلاّ بموسى والتوراة، وهذا إخبار منهم على حسب دعواهم وزعمهم، وإلاّ فقد بيّنا أن من يكفر برسول واحد وبمعجزة واحدة فإنه لا يمكنه الإيمان بأحد من الرسل ألبتة. اهـ.

.قال السمرقندي:

ثم قال عز وجل: {فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم} ولم يذكر في هذه الآية جوابهم، والجواب فيه مضمر فكأنه قال: وأخذنا منهم ميثاقًا غليظًا، فبنقضهم الميثاق لعنهم الله تعالى وخذلهم كقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ ميثاقهم وَكُفْرِهِم بأايات الله وَقَتْلِهِمُ الانبياء بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلًا} [النساء: 155] ثم قال: {وَكُفْرِهِم بئايات الله} يعني بكفرهم بآيات الله لعنهم الله وخذلهم.
ثم قال تعالى: {وَقَتْلِهِمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقّ} يعني: وبقتلهم الأنبياء بغير جرم {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} يعني: ذا غلاف ولا نفقه حديثك، وقرأ بعضهم: غلف بضم اللام وجماعة الغلاف يعني أن قلوبنا أوعية لكل علم ولا نفقه حديثك.
قال الله تعالى: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا} يعني ختم الله على قلوبهم {بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلًا} أي لا يؤمنون إلا قليل منهم ويقال لا يؤمنون إلا بالقليل لأنهم آمنوا ببعض وكفروا ببعض.
وقال مقاتل: يعني ما أقل ما يؤمنون، يقول: بأنهم لا يؤمنون البتة. اهـ.

.قال ابن عطية:

وقوله تعالى: {فبما نقضهم} الآية، إخبار عن أشياء واقعوها هي في الضد مما أمروا به وذلك أن الميثاق الذي رفع الطور من أجله نقضوه، والإيمان الذي تضمنه {ادخلوا الباب سجدًا} إذ ذلك التواضع إنما هو ثمرة الإيمان والإخبات جعلوا بدله كفرهم بآيات الله، وقولهم: حبة في شعرة وحنطة في شعيرة، ونحو ذلك مما هو استخفاف بأمر الله وكفر به، وكذلك أمروا أن لا يعتدوا في السبت، وفي ضمن ذلك الطاعة وسماع الأمر، فجعلوا بدل ذلك الانتهاء إلى انتهاك أعظم حرمة، وهي قتل الأنبياء، وكذلك أخذ الميثاق الغليظ منهم تضمن فهمهم بقدر ما التزموه، فجعلوا بدل ذلك تجاهلهم. وقولهم: {قلوبنا غلف} أي هي في حجب وغلف، فهي لا تفهم، وأخبر الله تعالى أن ذلك كله عن طبع منه على قلوبهم، وأنهم كذبة فيما يدعونه من قلة الفهم، وقرأ نافع {تعْدّوا} بسكون العين وشد الدال المضمومة، وروى عنه ورش تعَدّوا بفتح العين وشد الدال المضمومة وقرأ الباقون {لا تعْدوا} ساكنة العين خفيفة الدال مضمومة وقرأ الأعمش والحسن {لا تعتدوا} وقوله تعالى: {فبما} ما زائدة مؤكدة، التقدير فبنقضهم، وحذف جواب هذا الكلام بليغ منهم، متروك مع ذهن السامع، تقديره لعناهم وأذللناهم، وحتمنا على الموافين منهم الخلود في جهنم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)}
معناه لارتكابهم هذه المناهي، ولاتصافهم بهذه المخازي، أحللناهم منازل الهوان، وأنزلنا بهم من العقوبة فنون الألوان.
ويقال لَحِقَهُمْ شؤم المخالفات حالة بعد حالة، لأن من عقوبات المعاصي الخذلان لغيرها من ارتكاب المناهي؛ فَبِنَقْضِهم الميثاق، ثم لم يتوبوا، جرَّهم إلى كفرهم بالآيات، ثم لشؤم كفرهم خذِلُوا حتى قتلوا أنبياءهم- عليهم السلام- بغير حقٍ، ثم لشؤم ذلك تجاسروا حتى ادَّعوا شدةَ التفَهُّم، وقالوا: قلوبنا أوعية العلوم، فَرَدَّ الله عليهم وقال: {بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} فحَجَبَهُمْ عن محلِّ العرفان، فعمهوا في ضلالتهم. اهـ.

.قال الفخر:

اتفقوا على أن (ما) في قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم} صلة زائدة، والتقدير: فبنقضهم ميثاقهم، وقد استقصينا هذه المسألة في تفسير قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله لِنتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159]. اهـ.

.من فوائد الألوسي في الآية:

قال رحمه الله:
{فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم} في الكلام مقدر والجار والمجرور متعلق بمقدر أيضًا، والباء للسببية و(ما) مزيد لتوكيدها، والإشارة إلى أنها سببية قوية، وقد يفيد ذلك الحصر بمعونة المقام كما يفيده التقديم على العامل إن التزم هنا، وجوز أن تكون ما نكرة تامة، ويكون نقضهم بدلًا منهما أي فخالفوا ونقضوا ففعلنا بهم مافعلنا بنقضهم، وإن شئت أخرت العامل.
واختار أبو حيان عليه الرحمة تقدير لعناهم مؤخرًا لوروده مصرحًا به كذلك في قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم لعناهم} [المائدة: 13] وجوز غير واحد تعلق الجار بحرمنا الآتي على أن قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ} [النساء: 160] بدل من قوله سبحانه: {فَبِمَا نَقْضِهِم}، وإليه ذهب الزجاج، وتعقبه في [البحر] بأن فيه بعدًا لكثرة الفواصل بين البدل والمبدل منه، ولأن المعطوف على السبب سبب فيلزم تأخر بعض أجزاء السبب الذي للتحريم عن التحريم، فلا يمكن أن يكون جزء سبب أو سببًا إلا بتأويل بعيد، وبيان ذلك أن قولهم على مريم بهتانًا عظيمًا وقولهم: {إِنَّا قَتَلْنَا المسيح} [النساء: 157] متأخر في الزمان عن تحريم الطيبات عليهم، واستحسنه السفاقسي، ثم قال: وقد يتكلف لحله بأن دوام التحريم في كل زمن كابتدائه، وفيه بحث، وجعل العلامة الثاني الفاء في فبظلم على هذا التقدير تكرارًا للفاء في فبما نقضهم عطفًا على {أَخَذْنَا مِنْهُمْ} [النساء: 154]، أو جزاء شرط مقدر، واستبعده أيضًا من وجهين: لفظي ومعنوي، وبين الأول بطول الفصل وبكونه من إبدال الجار والمجرور مع حرف العطف، أو الجزاء مع القطع بأن المعمول هو الجار والمجرور فقط، والثاني: بدلالته على أن تحريم بعض الطيبات مسبب عن مثل هذه الجرائم العظيمة ومترتب عليه، ثم قال: ولو جعلت الفاء للعطف على {فَبِمَا نَقْضِهِم} كما في قولك: بزيد وبحسنه، أو فبحسنه أو ثم حسنه افتتنت لم يحتج إلى جعله بدلًا، وجوز أبو البقاء وغيره التعلق بمحذوف دل عليه قوله تعالى: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} ورد بأن ذلك لا يصلح مفسرًا ولا قرينة للمحذوف، أما الأول: فلتعلقه بكلام آخر لأنه رد وإنكار لقولهم: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ}، وأما الثاني: فلأنه استطراد يتم الكلام دونه؛ وكونه قرينة لما هو عمدة في الكلام يوجب أن لا يتم دونه.
والحاصل أنه لابد للقرينة من التعلق المعنوي بسابقتها حتى تصلح لذلك، ومنه يعلم أنه لا مورد للنظر بأن الطبعين متوافقان في العروض، أحدهما بالكفر، والآخر بالنقض، وقيل: هو متعلق بلا يؤمنون، والفاء زائدة، وقيل: بما دل عليه ولا يخفى ردّ ذلك.